رقد يوسف على سرير أبيض في حجرة رمادية كئيبة من حجر المشفى، تفوح منها
رائحة المرض والموت ،وقد كافحت شجرة لتدخل أغصانها من نافذة الحجرة ،لتعطي بلونها
الأخضر أمل في مواجهة الموت، تماما كما فعل يوسف فقد قاوم الموت ولكنه فقد بصره في
هذا الصراع ،كان في حالة من الاستسلام والاحتقان عندما جاء اليه المحقق ليستجوبه
قال يوسف "لا أعلم كيف حدث الأمر ، في السادسة جاء عم صالح الينا وحدثنا
بلهجة آمرة :"لاينبغي أن يبقى أحد في المبنى بعد العاشرة مساء"
قلت له مداعبا "ايه يا عم صالح أنت بتطردنا "
لم يعرني انتباها وتركنا،لم نهتم كثيرا فبطبيعة الحال ينتهي عمل المركز في
التاسعة أو التاسعة والنصف على الأكثر
،انصرفوا جميعا ولم يبق أحد غيري ،وقد نسيت تحذيره لأرى ما حدث وكان هذا أخر ما
رأيت
***********************************************************
***********************************************************
استيقظ عم صالح فزعا من هول ما رأى في منامه ،فقد رأى يوسف يرقد في المشفى
ويدلي بشهادة حول مقتل عم صالح ، أكثر ما أخافه في هذا الحلم هو أن يكشف يوسف سره
.
استعاذ عم صالح بالله وهب واقفا من سريره ليسحق بقدميه آثار خوف قلبه ،أعد
الأفطار لنفسه كعادته "طبق الفول المتين وقطعة خبز وكوب الشاي الساخن المحلى
بشدة من العيار الثقيل "وهو المفضل لدى الصعايدة ،ثم جلس عم صالح على أريكته
الخشبية في مدخل البناية يتناول أفطاره ويتأمل البناية التي هرمت مثله ولكنها
مازالت جميلة ،بقى كمبنى يتحدى الزمن وهو حارسه ،أسند رأسه على حائط الذكريات
العتيق ومع هبوب نسيم الصباح العليل حاملا صوت محمد قنديل وهو يشدو"يا حلو
صبح يا حلو طل" سرب عنه خوفه وفزعه
من حلم الليلة الماضية .
أخذ يتأمل المبنى الأسطوري الجمال الخاوي الا من صوت الذكرى ،ذكرى حيوات
عمّرت هذا المكان سابقا ،صاح بصوت كزئير الأسد هز المكان "العمى لهؤلاء
الحمقى يريدون اغتيال جمال التاريخ،اللعنة على الأرواح المرتشاة ببضع وريقات قذرة تسمى المال "هبت عاصفة
من هواء الخريف الفزع حاملة صوت أحدهم برفقة ايقاعات صاخبة حد الجنون "اديك
في السقف تمحر..." !!
كان يقول أن أفضل شئ فعله هو شراء
تلك الحجرة من صاحب البناية والتي أصبحت الآن شوكة في حلق الورثة خاصة بعد أن
استطاعوا شراء جميع الشقق ويريدون الآن هدم البناية وتحويلها لابراج عالية! ليست
في نظره أكثر من علب سردين يخزن البشر داخلها علّهم ينجون من خواء الداخل .
من الأشياء التي أبهجت عم صالح أن الأستاذ يوسف هو أيضا شوكة آخرى في حلقهم
، فبعد أن ورث الشقة عن والده حولها الى مركز ثقافي ورفض بيعها، وقريبا سيأتي هو
وأصدقائه محبي التاريخ ويعتصموا داخل المركز وتحضر القنوات الفضائية ويقيموا ندوة
ثقافية عن قيمة المبنى ،على الرغم من أن عم صالح في الماضي كره مرتادي المركز
عندما سمعهم في أحدى الأمسيات يتطاولوا على الله قائلين "الدين أفيون
الشعوب" "وأن الكون خلق صدفة" "وان الأديان نفسها تدعو
للالحاد "،ولكن الآن ربطته الآزمة بهؤلاء الشباب برباط مقدس فغفر لهم خطيئتهم
وقال لنفسه "طيش شباب".
وسط عاصفة الأفكار التي اجتاحت عقله ترامى الى أذنه صوت مظاهرة قادمة
،اندفع نحو البوابة لاغلأقها وخلع"الأوكرة"ثم جلس داخل حجرته، و ليحتمي
من نيران الماضي وصخب الحاضر وأشعل جمر الجوزة وأعد "التعمبرة " سيخون
شلته ولكن لا سبيل ليهدئ ذهنه في هذا
اليوم سوى "الكيف"،ذات مرة سأله أحد أصدقائه من شلة الأنس في احدى مجالس
"الكيف" :
"أنت عارف مين اللي بيحكم مصر دلوقتي؟"
أجاب مندفعا "ودي عايزة سؤال !كليوباترا طبعا"
انفجروا جميعا ضاحكين وقال أحدهم "عم صالح خلاص وصل "
تبا لا يصدقون أن الملكة تأتيني كل ليلة ،وتخبرني بأنها غاضبة ،وأحيانا
تبكي على صدري كطفلة في حضن أبيها ،وأحيانا تحمل الجواري عرشها وتطير فوق سطح
النيل لتمسح أدمع عرائسه ،ألا يعلمون أني من أجلها دفعت أغلى ما في عمري وأصبحت
وحيدا .
أمسك "الأوكرة " بين يديه وظل يردد "أوكرة دكر ونتاية"
اللعنة كل ما بهذا المبنى يموج
بالخلاعة والمجون حتى الحديد يتغازل بعمق داخل الباب، تلك الخيلات كانت
نذير بحضورملكته ،عندما شعر عم صالح بحضورها صاح فزعا"لا من فضلك ليس
الآن"
وتعآلت أصوات ضجيج وتكسير من حجرة عم صالح
"ايه الصوت ده يا عم صالح" صاح يوسف
لم يكن عم صالح يعلم أنه يوجد
أحد غيره بالمبنى ، يبدو أن ما كان خائفا منه سيحدث ،ما رآه في منامه سيتحقق ، لقد
اقتربت ساعة الحساب يجب أن ينتهي العذاب ، لهذا يجب ألا يبقى أحد في المبنى بعد
العاشرة سأذهب لأحذرهم
تابع يوسف كلامه مع المحقق :
في حوالي العاشرة والنصف سمعت نباح كائنات تشبه الكلاب وعم صالح يصرخ،ثم
بدأت تلك الكائنات تهاجمه ،طرحوه أرضا
وبدأوا في نهش لحمه ،هممت بالركض لأنقذه ولكن فجأة بدأت تشتعل النيران في المبنى
ثم اشتعلت في وجهي لأفقد البصر
سأله المحقق :"لمن توجه الاتهام؟"
أجاب يوسف:الورثة لقد تلقينا
تهديدات سابقا منهم
ولكن المحقق كان له رأي آخر:سيد يوسف انك مخطئ ،فيعد عدة تحريات استخرجنا
رفات لجسد صبي في العاشرة من حجرة عم صالح ،وبتحليل الرفات تبين أنها لابن عم صالح
،وعند سؤال أهل الحي قالوا أن عم صالح كان
له اين ولكنه اختفى وأن زوجته قد أصيبت بالجنون جراء اختفائه ثم ماتت من الحزن
عليه ،كما وجدنا في مسكن عم صالح كتب سحر وتعاويذ ،وبنبرة ساخرة تابع المحقق "يبدو أن سر بقاء عم صالح بالبناية
كان البحث عن كنز مزعوم وأنه قدم ابنه كقربان وفقا لما تقول كتبه السحرية"
نوبة ضحك هستيرية انتابت يوسف
وتذكر عم صالح وهو يحادث أحد في الفناء ليلة مقتله قائلا بحدة"لا مزيد من الأضاحي لا مزيد من
القرابين"